كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويجوز أن يجعل {أن لا يكونوا} في موضع الفاعل ل {باخِع} والجملة خبر لَعلّ.
وإسناد {باخع} إلى {أن لا يكونون مؤمنين} مجاز عقلي لأن عدم إيمانهم جُعل سببًا للبخع.
وجيء بمضارع الكون للإشارة إلى أنه لا يأسف على عدم إيمانهم ولو استمر ذلك في المستقبل فيكون انتفاؤه فيما مضى أولى بأن لا يؤسف له.
وحذف متعلق {مؤمنين}؛ إما لأن المراد مؤمنين بما جئتَ به من التوحيد والبعث وتصديق القرآن وتصديق الرسول، وإما لأنه أريد بمؤمنين المعنى اللَّقبي، أي أن لا يكونوا في عداد الفريق المعروف بالمؤمنين وهم أمة الإسلام.
وضمير {أن لا يكونوا} عائد إلى معلوم من المقام وهم المشركون الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم وعُدل عن: أن لا يؤمنوا، إلى {أن لا يكونوا مؤمنين} لأن في فعل الكون دلالة على الاستمرار زيادة على ما أفادته صيغة المضارع، فتأكّد استمرار عدم إيمانهم الذي هو مورد الإقلاع عن الحزن له.
وقد جاء في سورة الكهف (6) {فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث} بحرف نفي الماضي وهو {لم} لأن سورة الكهف متأخرة النزول عن سورة الشعراء فعدم إيمانهم قد تقرر حينئذ وبلغ حدّ المأيوس منه.
وضمير {يكونوا} عائد إلى معلوم من مقام التحدّي الحاصل بقوله: {طسم تلك آيات الكتاب المبين} [الشعراء: 1، 2] للعلم بأن المتحدَّيْن هم الكافرون المكذبون.
{إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)}.
استئناف بياني ناشيء عن قوله: {أن لا يكونوا مؤمنين} [الشعراء: 3] لأن التسلية على عدم إيمانهم تثير في النفس سؤالًا عن إمهالهم دون عقوبة ليؤمنوا، كما قال موسى {ربّنا إنك آتيت فرعون وملأه زينةً وأموالًا في الحياة الدنيا ربّنا ليَضِلّوا عن سَبيلك ربّنا اطمِسْ على أموالهم واشدُدْ على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 88]، فأجيب بأن الله قادر على ذلك، فهذا الاستئناف اعتراض بين الجملتين المعطوفة إحداهما على الأخرى.
ومفعول {نشأ} محذوف يدل عليه جواب الشرط على الطريقة الغالبة في حذف مفعول فعل المشيئة.
والتقدير: إن نشأ تنزيلَ آية ملجئة ننزلها.
وجيء بحرف {إنْ} الذي الغالب فيه أن يشعر بعدم الجزم بوقوع الشرط للإشعار بأن ذلك لا يشاؤه الله لحكمة اقتضت أن لا يشاءه.
ومعنى انتفاء هذه المشيئة أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يحصل الإيمان عن نظر واختيار لأن ذلك أجدى لانتشار سمعة الإسلام في مبدإ ظهوره.
فالمراد بالآية العلامة التي تدل على تهديدهم بالإهلاك تهديدًا محسوسًا بأن تظهر لهم بوارق تنذر باقتراب عذاب.
وهذا من معنى قوله تعالى: {وإن كان كَبُر عليك إعراضُهم فإن استطعتَ أن تَبْتَغِيَ نَفَقًا في الأرض أو سُلّمًا في السماء فتأتيهم بآية} [الأنعام: 35]، وليس المراد آيات القرآن وذلك أنهم لم يقتنعوا بآيات القرآن.
وجعل تنزيل الآية من السماء حينئذ أوضح وأشدّ تخويفًا لقلّة العهد بأمثالها ولتوقع كل من تحت السماء أن تصيبه.
فإن قلت: لماذا لم يُرِهِمْ آية كما أُرِي بنو إسرائيل نَتْقَ الجبل فوقهم كأنه ظُلَّةٌ؟ قلت: كان بنو إسرائيل مؤمنين بموسى وما جاء به فلم يكن إظهار الآيات لهم لإلجائهم على الإيمان ولكنه كان لزيادة تثبيتهم كما قال إبراهيم {أرني كيف تحيي الموتى} [البقرة: 260].
وفرّع على تنزيل الآية ما هو في معنى الصفة لها وهو جملة {فظلت أعناقهم لها خاضعين} بفاء التعقيب.
وعطف {فظلت} وهو ماض على المضارع قوله: {ننزل} لأن المعطوف عليه جواب شرط، فللمعطوف حكم جواب الشرط فاستوى فيه صيغة المضارع وصيغة الماضي لأن أداة الشرط تخلص الماضي للاستقبال؛ ألا ترى أنه لو قيل: إن شئنا نزّلنا أو إن نَشأ نَزَّلنا، لكان سواء إذ التحقيق أنه لا مانع من اختلاف فعلي الشرط والجزاء بالمضارَعيَّة والماضوية، على أن المعطوفات يتّسع فيها ما لا يُتّسع في المعطوف عليها لقاعدة: أن يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل، كما في القاعدة الثامنة من الباب الثامن من مغني اللبيب، غير أن هذا الاختلاف بين الفعلين لا يخلو من خصوصية في كلام البليغ وخاصة في الكلام المعجز، وهي هنا أمران: التفنّن بين الصيغتين، وتقريبُ زَمن مضي المعقب بالفاء من زمن حصول الجزاء بحيث يكون حصول خضوعهم للآية بمنزلة حصول تنزيلها فيتمّ ذلك سريعًا حتى يخيّل لهم من سُرعة حصوله أنه أمر مضى فلذلك قال: {فظلت} ولم يقل: فتظل.
وهذا قريب من استعمال الماضي في قوله تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} [النحل: 1] وكلاهما للتهديد، ونظيره لقصد التشويق: قد قامت الصلاة.
والخضوع: التطامن والتواضع.
ويستعمل في الانقياد مجازًا لأن الانقياد من أسباب الخضوع.
وإسناد الخضوع إلى الأعناق مجاز عقلي، وفيه تمثيل لحال المنقادين الخائفين الأذلّة بحال الخاضعين الذين يتّقون أن تصيبهم قاصمة على رءوسهم فهم يطأطئون رءوسهم وينحنون اتقاء المصيبة النازلة بهم.
والأعناق: جمع عُنُق بضمتين وقد تسكن النون وهو الرقبة، وهو مؤنث.
وقيل: المضموم النون مؤنث، والساكن النون مذكر.
ولما كانت الأعناق هي مظهر الخضوع أُسند الخضوع إليها وهو في الحقيقة مما يسند إلى أصحابها ومنه قوله تعالى: {وخَشَعَت الأصواتُ للرحمن} [طه: 108] أي أهل الأصوات بأصواتهم كقول الأعشى:
كذلكَ فافعَلْ ما حييتَ إذَا شتوا

وأقْدم إذا ما أعينُ الناس تَفْرَق فأسند الفَرق إلى العيون على سبيل المجاز العقلي لأن الأعين سبب الفرق عند رؤية الأشياء المخيفة.
ومنه قوله تعالى: {سحَرُوا أعينَ الناس} [الأعراف: 116] وإنما سحَروا الناس سحرًا ناشئًا عن رؤية شعوذة السحر بأعينهم، مع ما يزيد به قوله: {ظلت أعناقهم لها خاضعين} من الإشارة إلى تمثيل حالهم، ومقتضى الظاهر فظلوا لها خاضعين بأعناقهم.
وفي إجراء ضمير العقلاء في قوله: {خاضعين} على الأعناق تجريد للمجاز العقلي في إسناد {خاضعين إلى أعناقهم} لأن مقتضى الجري على وتيرة المجاز أن يقال لها: خاضعة، وذلك خضوع من توقع لحاق العذاب النازل.
وعن مجاهد: أن الأعناق هنا جمع عُنُق بضمتين يطلق على سيد القوم ورئيسهم كما يطلق عليه رأس القوم وصدر القوم، أي فظلت سادتهم، يعني الذين أغرَوْهم بالكفر خاضعين، فيكون الكلام تهديدًا لزعمائهم الذين زيَّنوا لهم الاستمرار على الكفر، وهو تفسير ضعيف.
وعن ابن زيد والأخفش: الأعناق الجماعات واحدها عُنُق بضمتين جماعة الناس، أي فظلّوا خاضعين جماعات جماعات، وهذا أضعف من سابقه.
ومن بدع التفاسير وركيكها ما نسبه الثعلبي إلى ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوانٌ بعد عِزّة، وهذا من تحريف كلم القرآن عن مواضعه ونحاشي ابن عباس رضي الله عنه أن يقوله وهو الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُعلّمه التأويل.
وهذا من موضوعات دعاة المُسَوِّدة مثل أبي مسلم الخراساني وكم لهم في الموضوعات من اختلاق، والقرآن أجلّ من أن يتعرض لهذه السفاسف.
وقرأ الجمهور: {ننزّل} بالتشديد في الزاي وفتح النون الثانية.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بضم النون الثانية وتخفيف الزاي.
{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)} عطف على جملة: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} [الشعراء: 3] أي هذه شنشنتهم فلا تأسف لعدم إيمانهم بآيات الكتاب المبين، وما يجيئهم منها من بعدُ فسيعرضون عنه لأنهم عُرفوا بالإعراض.
والمضارعُ هنا لإفادة التجدد والاستمرار.
فالذكر هو القرآن لأنه تذكير للناس بالأدلة.
وقد تقدم وجه تسميته ذكرًا عند قوله تعالى: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} في سورة الحجر (6).
والمحدَث: الجديد، أي من ذكر بعدَ ذكر يُذكّرهم بما أنزل من القرآن من قبله فالمعنى المستفاد من وصفه بالمحدث غير المعنى المستفاد من إسناد صيغة المضارع في قوله: {ما يأتيهم من ذكر}.
فأفاد الأمران أنه ذكر متجدّد مستمر وأن بعضه يعقب بعضًا ويؤيده.
وقد تقدم في سورة الأنبياء [2، 3] قوله: {ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدَث إلاّ استمعوه وهم يلْعَبون لاهية قلوبهم} وذكر اسم الرحمن هنا دون وصف الرّب كما في سورة الأنبياء لأن السياق هنا لتسلية النبي على إعراض قومه فكان في وصف مُؤْتي الذكر بالرحمن تشنيع لحال المعرضين وتعريض لغباوتهم أن يُعرضوا عمَّا هو رحمة لهم، فإذا كانوا لا يدركون صلاحهم فلا تَذهبْ نفسُك حسراتتٍ على قوم أضاعوا نفعهم وأنت قد أرشدتهم إليه وذكرتهم، كما قال المثل: لا يحزنك دم هراقه أهله وقال النابغة:
فإن تغلب شقاوتكم عليكم ** فإني في صلاحكم سعَيْتُ

وفي الإتيان بفعل {كانوا} وخبره دون أن يقال: إلا أعرضوا، إفادةُ أن إعراضهم راسخ فيهم وأنه قديم مستمرّ إذ أخبر عنهم قبل ذلك بقوله: {أن لا يكونوا مؤمنين} [الشعراء: 3]، فانتفاء كون إيمانهم واقعًا هو إعراض منهم عن دعوة الرسول التي طريقها الذكر بالقرآن فإذا أتاهم ذكر بعد الذكر الذي لم يؤمنوا بسببه وجدهم على إعراضهم القديم.
و{مِن} في قوله: {من ذكر} مؤكدة لعموم نفي الأحوال.
و{مِن} التي في قوله: {من الرحمن} ابتدائية.
والاستثناء من أحوال عامة، فجملة: {كانوا عنه معرضين} في موضع الحال من ضمير {يأتيهم من ذكر}.
وتقدم المجرور لرعاية الفاصلة.
{فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)}.
فاء {فقد كذبوا} فصيحة، أي فقد تبين أن إعراضهم إعراض تكذيب بعد الإخبار عنهم بأن سنتهم الإعراض عن الذكر الآتي بعضه عقب بعض فإن الإعراض كان لأنهم قد كذبوا بالقرآن.
وأما الفاء في قوله: {فسيأتيهم} فَلِتَعْقِيب الإخبار بالوعيد بعد الإخبار بالتكذيب.
والأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر عن الحدث العظيم، وتقدم عند قوله تعالى {ولقد جاءك من نبأ المرسلين} في سورة الأنعام (34).
والأنباء: ظهور صدقها، وليس المراد من الإتيان هنا البلوغ كالذي في قوله: {وهل أتاك نَبَؤا الخصم} [ص: 21] لأن بلوغ الأنباء قد وقع فلا يحكى بعلامة الاستقبال في قوله: {فسيأتيهم}.
و{ما} في قوله: {ما كانوا به يستهزءون} يجوز أن تكون موصولة فيجوز أن يكون ماصْدَقُها القرآن وذلك كقوله تعالى: {ولا تتخذوا آيات الله هُزؤًا} [البقرة: 231].
وجيء في صلته بفعل {يستهزءون} دون يكذِّبون لتحصل فائدة الإخبار عنهم بأنهم كذَّبوا به واستهزأوا به، وتكون الباء في {به} لتعدية فعل {يستهزءون}، والضمير المجرور عائدًا إلى {ما} الموصولة، وأنباؤه أخباره بالوعيد.
ويجوز أن يكون ما صدق {ما} جنسَ ما عُرفوا باستهزائهم به وهو التوعُّد، كانوا يقولون: مَتى هذا الوعد؟ ونحو ذلك.
وإضافة {أنبؤا} إلى {ما كانوا به يستهزءون} على هذا إضافة بيانية، أي ما كانوا به يستهزئون الذي هو أنباء ما سيحلّ بهم.
وجمع الأنباء على هذا باعتبار أنهم استهزأوا بأشياء كثيرة منها البعث، ومنها العذاب في الدنيا، ومنها نصر المسلمين عليهم {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [يونس: 48]، ومنها فتح مكة، ومنها عذاب جهنم، وشجرةُ الزقوم.